Home / Articles / Opinion / جَهلُنا “المقدَّس” !

جَهلُنا “المقدَّس” !

عيسى مخلوف

الدين المفترض أن يكون تسامحاً ورحمة تحوّل عند فئة متزايدة من الناس إلى حفلة مصارعة وأصبح مرادفاً للعنف والموت. هناك مَن، باسم الدين، يقتل، وباسمه يُكفِّر ويُخوِّن ويرتكب أفظع الجرائم. وهناك مَن، باسم الدين أيضاً، يناهض العلم والمعرفة ويفرض حصاراً على الفكر النقدي والعقلاني، فضلاً عن تدخُّله في طريقة المأكل والمشرب والمَلبس، مفترضاً أنّ ثمّة رؤية واحدة ثابتة ومُطْلقة للحياة والكون. رؤية أحاديّة ترفض التعدُّد والانفتاح. هكذا يصبح المجتمع أسير استبدادين، يُكمل أحدهما الآخر، ديني ومدني. الاستبداد الأوّل هو نتيجة للفراغ المعرفي الهائل الذي أسّست له أنظمة الاستبداد التي لم تفتح مدرسة واحدة بالمعنى الحديث للكلمة، فكرّست بذلك الأمّيّة والجهل والتخلّف العميم، ودفعت نحو مأساة تاريخيّة قلّ مثيلها.
هذا الأسبوع، كتبت الشاعرة والكاتبة الأردنيّة زليخة أبو ريشة على صفحتها في الفيسبوك الكلمات الآتية: “لا أملّ الاستماع إلى الأذان، إذا كان الصوت شجيّاً. ولكن هذا الصوت المعلّب الذي تبثّه وزارة الأوقاف، لا يُذَكِّر بصلاة، ولا يهيّئ لخشوع. اطربوا القلوب بما يُشجي، ولا تنفّروا ما وسعكم التنفير. هاتوا لنا أذان محمد رفعت فجراً، وعبد الباسط ظهراً، والمنشاوي عصراً، ومصطفى اسماعيل مغرباً، وأمّ كلثوم عشاء. لعلّ الذائقة ترتقي، والجمال يصبح برهاناً على صدق الحال”.
صحيح أنّ هناك من أثنى على هذا الموقف، لكنّ جماعة التكفيريين رفضته وانتقدته. عاصفة من الانتقادات واجهت موقف الشاعرة واستنكرت قراءة أمّ كلثوم للقرآن، فكيف لها أن تقرأه وهي امرأة، والمرأة، في عُرفهم، “عورة” ووعاء للجنس ليس إلاّ؟ هذه الفئة من البشر تنقضّ على المرأة انقضاضها على الفنّ والعلم. إنها الذهنيّة التي أصبحت حالة قائمة بذاتها في العالم العربي، ولها، إضافة إلى البيئة الحاضنة اللازمة، روّاد وأنصار ومريدون، وهي التي طعنت نجيب محفوظ في عنقه لاتهامه بالكفر، كما كفّرت المفكّر نصر حامد أبو زيد ودفعته إلى الهجرة، وصادرت كتبه في الجامعة التي كان يدرّس فيها. ولم يكن الأمر مختلفاً في الماضي. نسبة كبيرة من الذين صنعوا مجد الثقافة العربية والإسلاميّة سُجنوا او قُتلوا او أُحرقَت كتبهم.
هذه الذهنيّة المُفرطة في انغلاقيّتها حطّمت أيضاً تمثالَي بوذا الأثريّين في باميان ودمّرت محتويات متحف الموصل وتماثيل ومآثر في مدينة تدمر الأثريّة، وغيرها من المواقع التاريخيّة المهمّة، ورفعت فوقها راية الجهل والبشاعة والقتل. وهي التي وقفت وراء برامج تعليميّة بائدة خالية من حرّيّة التفكير والحسّ النقدي. التوجّه الظلامي المتنامي يُغَرِّب إنسان تلك المنطقة عن نفسه وعن العالم، وحتّى عن العصر الذي يعيش فيه، وهذا ما شجّعت عليه، بالإضافة إلى أنظمة الاستبداد، سياسات الغرب ومطامعه. وها نحن نشهد اليوم على ولادة دولة دينيّة أخرى في المنطقة معروفة مرجعيّاتها وطرائق تفكيرها ونظرتها إلى الإنسان والحياة والمجتمع.
المشكلة الكبرى أنّ هذه المرجعيّات البائدة التي ترقى إلى أزمنة سحيقة أصبحت متفشّية في غير مكان. ذكرت صحيفة “درج” الإلكترونيّة هذا الأسبوع أنّ رئيس جامعة القاهرة محمّد عثمان الخشت، الأكاديمي المتخصّص في فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة والمعاصرة، يعتبر أنّ المرأة المثاليّة هي الخاضعة والتي ينحصر دورها في تأمين الحاجات الجنسيّة للرجل. رئيس الجامعة هذا، والذي يشرف على مستقبل ربع مليون طالب، صدر له في ثمانينات القرن الماضي كتابان يفصح عنهما هذان العنوانان: “المشاكل الزوجيّة وحلولها في ضوء الكتاب والسنّة والمعارف الحديثة”، و”المرأة المثاليّة في أعين الرجال”. هكذا تحلّ الأفكار الذكوريّة المريضة، والخرافات التي تحفل بها كتب التراث، محلّ الفكر العقلاني الموضوعي.
تدمير حرّية الفكر والإبداع هو تدمير النزعة الحيّة في الإنسان والتي يتجسّد من خلالها حسّه الجمالي والإنساني، أي ما يتميّز به عن بقيّة الكائنات الحيّة. فأيّ قيمة تبقى له إذا ما حُرم من إمكاناته وقدرته على التجاوز والتخطّي؟ إذا ما سيق، وجميع مَن حوله، كالقطيع وراء نهج ظالم ومتحجِّر؟ هكذا يريدون الإنسان، ميتاً قبل الموت. ذليلاً يحبو في الظلام. ولذلك فإنّ الجهل هو الاحتلال الأوّل، والتخلُّص منه شرط ضروري للتخلّص من أيّ احتلال آخر.

Check Also

ستة أسباب قد تجعل الوقوع في الخطأ تجربة جيدة

ارتكاب الأخطاء لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج سيئة، إذ أنه قد يصبح ميزة في واقع …

Leave a Reply

Your email address will not be published.