قبل ثلاثة عشر قرناً، قام عبدالله ابن المقفع بتعريب كتاب «كليلة ودمنة» عن الفارسية بعدما كان تم تفريسه عن الهندية، كما تقول مصادر التاريخ الأدبي. وهو كتاب سردي ينسب فيه مؤلفه الحوادث إلى عالم الحيوان، في نوع من التقية الأدبية، إزاء السلطة القائمة، فيقول ما يريد في شؤون السلطة والحكم، من دون أن تترتب عليه أي مسؤولية. ومع هذا، تتم محاكمة نوايا ابن المقفع، ويقتل بتهمة الزندقة. اليوم، وبعد بضعة عشر قرناً، يضع محمد إقبال حرب كتابه «الحقيقة» (منشورات ضفاف)، ويتخذ من عالم الطيور شخصيات روائية، وينسب لها أفعالاً وأقوالاً، ويقول على ألسنتها ما يريد، في نوع من التقية الروائية، إزاء «السلطات»، على أنواعها، لأننا، بعد كل هذه القرون، لا نزال نراوح مكاننا، ولا يزال قول «الحقيقة» يعرّض صاحبه إلى المساءلة بتهم جاهزة، أقلها التخوين، والتكفير، والتعميل، والخروج على أحكام القبيلة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. من هذا المستهل، ندخل إلى «الحقيقة» لمحمد إقبال حرب عنواناً ونصًّا.
في العنوان، تتراوح تمظهرات «الحقيقة» في النص بين التحييث والتجريد، وتختلف باختلاف طرفي النزاع؛ فهي العثور على العصفورة الدسيسة واكتشاف الخائن، من وجهة نظر أحد الطرفين، وهي كشف المتآمرين، من وجهة نظر الطرف الآخر. وهي الإرادة والعمل الدؤوب، برأي حاكم الدجاج الطبيعي. وهكذا، ليس ثمة مفهوم واحد للحقيقة في الرواية، والجميع يستخدم الدال نفسه للتعبير عن دوال مختلفة.
في النص، تشكل حادثة سقوط العصفورة المهاجرة، عن سطح العريشة مضرجةً بدمها بين زمرة الدجاج الملون، إثر إصابتها بطلقة صياد، البداية الحدثية للرواية، التي يترتب عليها قيام الديك سهم حاكم الدجاج وطبيبته بالعناية بها، ووضعها في مكان آمن، متخطيين فوقيتها وعنجهيتها، ما يؤدي إلى استلطاف متبادل بين الديك والعصفورة، يتطور إلى علاقة حب في مرحلة لاحقة. وإذ تشارف العصفورة الإبلال من جرحها، يقوم بعض المشبوهين بإنزال الأذى بها، فتختفي فجأةً من المكان. ويشكل اختفاؤها الغامض نقطة تحول جديدةً في مجرى الأحداث، يكون لها ما بعدها من بحث، وتحر، وانقسام في جماعة الدجاج بين: الدجاج الطبيعي الملون من أهل الأرض الشرعيين، والدجاج الصناعي الأبيض الطارئ عليها، ويروح الانقسام يتطور بين الفريقين، يغذيه بعض الطارئين بالتواطؤ مع بعض المقيمين، وتستخدم فيه الأسلحة، الإعلامية والسياسية والعسكرية، حتى المعركة الفاصلة التي ينتصر فيها الحق على الباطل، والخير على الشر، في نهاية الرواية. باختصار، إنها لعبة صراع على السلطة تستخدم فيها جميع الوسائل، وتبذل دونها أغلى التضحيات، ويسقط فيها صرعى كثيرون.
في غمرة الصراع، يكون لكل فريق قادته وجنوده وأسلحته؛ يقوم فريق الدجاج الأبيض الصناعي المعتدي بالتحضير للانقلاب على الفريق الآخر. يشارك في هذه العملية: زعيم الدجاج الصناعي الحالم بالسلطة، الحاقد على الدجاج الطبيعي، أبو الريش المتآمر على جماعته، المدرس المزيف، حفار ابن حاكم الفريق الآخر المغرر به… وآخرون. أما الأسلحة التي يستخدمها الفريق المنقلب فهي: التآمر، الدس، التحريض، الاحتكار، التجويع، القتل، القتال، الإشاعة، انتحال الصفة، اختراع أسطورة يؤسس عليها شرعيةً مفقودةً، اختلاق وقائع ثيولوجية كاذبة لتبرير أفعاله، اختراع عدو وهمي يضخمه لتعبئة أتباعه وزجهم في أتون المعركة، وغيرها.
في المقابل، يقوم فريق الدجاج الملون الطبيعي المعتدى عليه، من خلال سهم/ صياح، حاكمه الحكيم المنفتح على الآخرين من الطيور، والهدهد العابد الناسك، وكتكوت المساعد المخلص، ونغم العصفورة الحبيبة… وآخرين، باكتشاف المخطط المعادي والدفاع عن الأرض والسلطة. ويستخدم أسلحة: المراقبة، التخطيط، الشورى، الحب، التدريب، تفنيد دعاوى الفريق الآخر وتفكيك أسطورته، الصبر، الصمود، القتال… وغيرها.
وإذ تنجلي المعركة النهائية عن انتصار الحق على الباطل، يأتي نجاح الحاكم سهم/ صياح في تحدي الطيران ليشكل مفاجأةً غير متوقعة للفريقين المتحاربين، ويفتح نافذة أمل للجيل الجديد. ويأتي استشهاده متأثراً بجراحه ليعطي هذا الجيل درساً في التضحية والدفاع عن الوطن والحق. من هنا، ينظر ديكٌ يافع في عين دجاجته، في نهاية الرواية، ويقول: «سأطير مثله وأحملك إلى أعلى هذه السماء الصافية مثل عين الديك» (ص 151).
يفتح محمد إقبال حرب، من خلال روايته، الحكائي الحيواني على الواقعي الإنساني، ويسقط الخيالي على السياسي، فنقرأ خلف الوقائع الروائية المباشرة: التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، الصراع العربي الإسرائيلي، أسطرة الماضي وبناء الحاضر عليه، تزوير التاريخ لتبرير الواقع، زيف الزعماء وبلاهة العامة، تعليق الأخطاء على مشجب الإرهاب، استخدام العقيدة لإذكاء الصراع، تأثير الإشاعات في خيارات الناس، خطورة الدس والتآمر على وحدة الصف، العنصرية، تسخيف فكرة المنقذ المنتظر، وحتمية انتصار الحق على الباطل، ولو بعد حين… وبذلك، لا يعود الحكائي غايةً بذاته، على رغم ما يحدثه من مؤانسة وإمتاع، بل يتحول إلى وسيلة لبث الرسائل السياسية في شتى الاتجاهات، وقول ما يعتقد الكاتب أنه الحقيقة.
في السياق ذاته، تقدم الرواية صورةً سلبيةً عن مهنة التدريس، من حيث يقصد الكاتب أو لا يقصد، سواء على مستوى النص أو بناء الشخصية، ولكن على الرغم من هذه الهنات الهينات، تبقى «الحقيقة» حكاية جميلة، ممتعة ومعبرة، يجد فيها الباحث عن المتعة والتسلية ضالته، ويجد فيها الباحث عن الفائدة والعبرة غنيمته، ولن يعود قارئها من الغنيمة بالإياب، غير أن أكثر ما يوجع كاتبها وقارئها على السواء، هو أن يضطر الأول إلى التعبير عن أفكاره على ألسنة الطيور في القرن الحادي والعشرين، وأن يضطر الثاني إلى مجاراته والتواطؤ معه.