الولادة من رحم المعاناة
في تلك الأرض التي تعبق بنفحات التاريخ ، وبين تلك الروابي التي تشع بنور الحضارة . ومن دوحة عريقة تفيأها المجد ، وتعشقت جذورها تراب النهرين. تجذر وولد الأرشمندريت شمعون شليمون سنة ( 1890) في قرية صغيرة آمنة تدعى كوندكتا من أعمال تخوما في شمال ما بين النهرين. من أسرة عريقة ، ومن أبوين آشوريين فاضليم هما ( ايشو وياسمين ). نشأ وترعرع في كنف الأبوة الفاضلة ، فرسخ الايمان في قلبه . وبدت عليه منذ نعومة أظفاره تباشير الفطنة والذكاء. شب يافعاً بين تلك الوهاد المنيعة والقمم الرابضة ، فغدا صلباً في خضم الحياة ، عتياً امام نوازلها جريئاً ومقداماً. وقد تجلت خصاله هذه في تلك الموقعة التاريخية قلعة ربت . وذلك أبان الحرب العالمية الأولى عام ( 1914). والتي فرضت على شعبه الآشوري كونهم مسيحيون مشرقيون ، فأبى إلا ان يشارك فيها ، وأبلى بلاءً حسناً واصيب بجراح بليغة . فكانت قطرات دمه أول إحساساً له بالمعاناة ، وبداية شعوره بالواقع . معاناة شعبه الآمن بين أنياب الشر المتربص به ، وواقع الحياة المرير حيث تضيق سبل العيش . في هذه الحال المتردية بين القلق والخوف ، قبل التحدي متشبثاً بأرضه معللاً النفس بالامل المنبعث مع كل إشراقة شمس تحثه على البقاء .
ولكن غدرات الزمان ونوائبه أبت إلا ان تنفد عليه وعلى شعبه هناء العيش وهدوءه.
فأضطر مرغماً على النزوح مع ذويه تاركاً وراءه ذكريات حلمه الجميل حاملاً في حناياه حنيناً وعشقاً للارض التي أحب .. وحط الرحال في مدينة نينوى ( 1916). فاستطاب المقام وبدأ يحلم في صفاء الحياة بين أطلال المجد ، إذ بين أحشاء نينواه يتململ التاريخ يستصرخ الأجيال.. هلموا فأنتم ورثة هذه الأرض ، أنتم اشعاع النور الذي اضاء دروب المدنية كلها . فأزهر الامل في نفسه من جديد ، وزاد ايمانه وحبه لأرضه . وبفضل ايمانه هذا وارادته بالعطاء لشعبه. رسم شماساً على يد مار سركيس مطران جيلو وباز وريكان وهو لم ينهي بعد عامه الأول في نينوى . ولكن الشر يبقى لاهثاً في النفوس الحاقدة ، والوحوش تبقى تترصد للغدر في الحملان الآمنة. دربنا أبداً هي درب الجلجلة ، فشهادتنا هي عربون بقاءنا ، لأننا أبناء الشهادة والفداء. وها ان غدر الزمن يعتصر رئتي الحياة من جديد ، ويدب الهول والرعب في النفوس البريئة.
الانتقال الى روسيا ثم اليونان فلبنان
ويبدأ الاضطهاد مقدمة للإفناء والإقتلاع. وتبدأ معه رحلة المعاناة والعذاب . فيهاجر مع ذويه من جديد الى روسيا القيصرية ، حيث يمكث هناك خمس سنوات ، ولكن الاوضاع الداخلية فيها بسبب الحرب الاولى أرغمته على السفر منها. وكانت وجهته اليونان ، ومنها الى لبنان (سنة 1922). وبعد سنتين من الاقامة فيه ، شده الحنين الى وطنه وأرضه ، فرجع اليها حيث رسم كاهناً بتاريخ 14 آب 1924 ، على يد المطران مار سركيس. وعاد الى لبنان الذي احبه وطناً للحرية ، وملجاءاً للمضطهدين وحصناً للمسيحيين ،ليتخذ منه نواة رئيسية لتحقيق أهدافه ..
لقد ظل يمارس شعائره الدينية مؤمناً برسالته ، وخادماً أميناً لرعيته ، حتى كانت سنة ( 1950) عندما كان سيادة المطران زيا سركيس في زيارة رسولية الى لبنان ، وبفضل ما تناها اليه من أخبار عن جليل ما يقوم به من أعمال رعوية في خدمة شعبه وكنيسته . فرقاه الى رتبة الارخدياقون وجعله ممثلاً للكنيسة الشرقية في لبنان . وبعدها عينه غبطة البطريرك مارشمعون ممثلاً شرعياً للطائفة ونائباً بطريركياً للكنيسة في لبنان .
رحيل الجسد وخلود الذكرى والعطاء والعمل
وهكذا حمل على كاهله أعباء كثيرة ، وكرس نفسه لخدمة شعبه فأحسن النذر ووفى العطاء ، وسار بكنيسته وطائفته نحو الأفضل ، وتقدمت به السنين . حتى كان ذلك اليوم الذي به سمع صوت المخلص يقول : ” هلموا اليّ يا أيها المتعبون وكثيروا الأحمال فأنا أريحكم “. فحمل صليبه ومشى الى حيث النداء ، الى الراحة الأبدية. ومن أجدر بهذه الراحة غير العبد الصالح الأمين ..
أجل كان ذلك نهار الأحد الواقع في 24 ايلول 1967 حيث أسلم الروح. فنعته الإذاعة والتلفزيون اللبناني. بالاضافة الى الجرائد اللبنانية وأقيمت له مراسيم وصلوات جناز ودفن تليق به . وقد ترأس الذبيحة الالهية سيادة المطران مار روفائيل بيداويد مطران الكنيسة الكلدانية في لبنان. يعاونه كهنة الكنيستين الشرقية والكلدانية.
وكان في مقدمة المشاركين من رسميين : السيد حميد خوري ممثلاً رئيس الجمهورية اللبنانية ( الرئيس شارل حلو ) والنائبان جميل لحود وألبير مخيبر ، وممثل عن قيادة الجيش اللبناني ونخبة من كبار المسؤولين وكبار رجال الدين من كافة الطوائف المسيحية وحشود شعبية كبيرة ..
رحمه الرب وأسكنه فسيح جناته.