سر الخمير المقدس (الملك) في كنيسة المشرق
القس د. ابريم الخوري فيليبوس
تأسيس السر
ان كنيسة المشرق (الاشورية والشرقية القديمة) تعتبر الخمير المقدس (الملك) من أسرارها السبعة[1].
هناك تشابه في تأسيس سر الخمير المقدس (الملك) والزيت المقدس لان، حسب تقليد كنيسة المشرق وإستناداً الى شهادات كثيرة من الأباء، يعتبران هذان السران متسلسلان من الرب عن طريق الرسل وتحديداً من يوخنا بن زبدى (التلميذ الحبيب)؛ فالخمير المقدس (الملك) متسلسل من عشاء الرب الاخير, والزيت المقدس من عماذه عن طريقه يوحنا المعمدان ومنه الى يوحنا الحبيب.
فأن كل كنيسة رسولية لها تقليد قد يكون خاص بها وحدها تؤمن وتعتز وتفتخر به يرجع تأسيسه أو وجوده الى الرسل؛ هكذا ايضاً كنيستنا تؤمن وتعتز وتفتخر بهذا التقليد الذي تنفرد به لأنه يظهر ويثبت رسوليتها, لانه تقليد رسولي, أي إنه متسلسل من الرسل من العشاء الأخير وتداولته الكنيسة وحافظت عليه حتى يومنا هذا؛ يقول يوحنا الإنجيلي:” وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ.”[2].
شهادات بعض الأباء عن السر
أن أول من تكلم عن الخمير المقدس (الملك) هو البطريرك يوحنا بر أبكر (+905م) في قانون 12, حيث يقول: “رضى الروح القدس وأمر الذين يحضّرون العجينة أن يحفظوا نوعين من الخمير, واحد مقدس والأخر عادي, والمقدس منهم هو الضروري للبرشان, وهذه (حددناها) بكلام الرب”[3]. اذاً يذكر وجود نوعين من الخمير المستخدم لتحضير عجينة القربان في الكنيسة, واحد منهم يقول أنه مقدس وهو الضروري ” للبرشانة الملوكية” التي تفرز لتقديس القربان والثاني عادي.
ويقول عمانوئيل برشهاري (ت980) عن تسلسل الزيت المقدس: “وسره هو لانه متسلسل من الرسل”[4]؛ فهنا يعتبره الكاتب سراً لانه تسلسل من الرسل.
يقول سليمان البصري الذي عاش خلال القرن الثالث عشر بخصوص الخمير القرباني ما يلي: “وخلط يوحنا الحبيب كسرة القربانة المقدسة بكسرة اخرى، واخذ الشرقيون مار أدي ومار ماري هذه الكسرة، وقدسوا بواسطتها الخمير الذي سلم الينا”؛ اذاً سليمان البصري يرجع تسلسل السر الى يوحنا الحبيب وأما نقله الى كنيسة المشرق فيرجعها الى مار أدي ومار ماري.
ويقول ايليا في قوانينه: “واخذوا (الرسل) ما كانوا (قد) تركوه من القربان, الذي ذخروه بإلهام الله إياهم, مما قدسه سيدنا بيده يوم خميس الفصح, وقربهم منه؛ ففرقوه ليصيروه خمير القربان الذي يقدسوه, وأمروا أن يمد الخمير ولدهن ليؤديه الأول الى الأخير الى إنقضاء الدنيا”[5]. هنا يؤكد مار إيليا على ان الخمير الذي نعتبره اليوم سراً ويكون خميراً للقربان الذي نقدسه هو من ما قدسه الرب بيده في خميس الفصح ونالوا منه التلاميذ.
أما يوحنا بن زعبي (ت1235م) فيقول عن تسلسل الزيت المقدس من الرسل، :”عندما صعد ربنا من الماء، اذ كانت المياه تسيل من جسده، اقترب يوحنا (المعمدان) من ربنا، وتناولها في إناء. وحينما اقترب يوم استشهاده (يوحنا المعمدان) أسلمها الى يوحنا بن زبدى. اذا كان يوحنا المعمدان يعلم، بانه سيصبح يوما أمين خزانة ربنا. وعندما كان ربنا على الصليب طعن الجند جنبه بحربة، فخرج حالاً ماء ودم، ورأهما يوحنا، إن الدم دليل على أسرار الجسد والدم في الكنيسة، والماء علامة لولادة المؤمنين ثانية. لقد شاهد يوحنا وحده التمييز بين الماء والدم. فأخذ كل واحد منها على حدة. الماء في الإناء الذي أودعه إياه يوحنا (المعمدان). والدم على كسرة الخبز الذي أودعه أياه ربنا في الفصح. هكذا إمتزج الدم الذي سال من جسده، بالخبز الذي سماه جسده، وإختلط ماء جنبه بالماء الذي من عماده.
وبعد قيامة ربنا وإرسال نعمة الروح للتلاميذ وفتح أذهانهم. أمر رسله بأن يضعوا في الكنيسة الخمير الذي أخذه من جسده ليستخدم في القداس وفي العماد.
وحينما أراد التلاميذ الإنطلاق ليتلمذوا الامم، أخذوا زيت الزيتون ومزجوه في الماء الذي في الإناء وتقاسموه فيما بينهم، ليكون خمير العماد. وطحنوا الكسرة الملطخة بالدم الذي خرج من الجنب، ومزجوها بدقيق وملح وتقاسموها فيما بينهم، لتكون في الكنيسة خمير جسد المسيح ودمه”, ويقول في نهاية موضوعه “ان هذه هي الرواية التي قرأتها، وكانت موسومة بختم بطرس، وأنا وضعتها كما وردت”[6].
هنا يوحنا بن زعبي يشرح تفاصيل تسلسل سر الخمير المقدس والزيت المقدس ويربط فيما بينهما وبينهما وبين العماذ والقيامة, أي بين بداية كرازة الرب مع معموديته ونهايتها بقيامته؛ ويذكر فيها شهادة يوحنا المعمدان ويوحنا الحبيب عن السرين؛ شهادة يوحنا الحبيب مهمه لانه أولاً كان تلميذ يوحنا المعمدان وهو من أوصاه أن يتبع المسيح, وثم أصبح يوحنا التلميذ الحبيب الذي إتكأ على حضن الرب في عشاءه الأخير وسأله عن شخصية مسلمه, وهو الوحيد الذي رافق الرب إلى الصلب فسلمه أمه العذراء مريم, وكان أول تلميذ وصل الى القبر بعد قيامة الرب وشهد على قيامته.
كما إننا نجد ذكراً واضحاً لإعتبار الخمير المقدس (الملك) والزيت المسحة من الأسرار السبعة في المقالة الرابعة من كتاب “الجوهرة”, تأليف عبديشوع الصوباوي المتوفي سنة 1318م, أثناء ذكره لأسرار الكنيسة السبعة, حيث يقول: “… والثالث زيت المسحة… والسادس الخمير المقدس، أعني الملك…”؛ ويقول ايضاً: “ان زيت المسحة يستعمل في الولادة التي هي المعمودية، والخمير المقدس يستخدم في الطعام الروحي الذي هو جسد المسيح”.
وفي الفصل الرابع في زيت المسحة يقول: “ان زيت المسحة تقليد رسولي وصل الينا من الزيت الذي كرسوه وتتداوله كنيسة الله حتى يومنا هذا…”.
الفصل السادس في الخمير المقدس يقول: “ان الرسل القديسين مبشري هذه الربوع الشرقية، توما وبرتلماي من الاثنى عشر وادي وماري من السبعين سلموا لكنائس المشرق كلها الخمير المقدس المحفوظ فيها لاستعمال سر جسد الرب حتى مجيئه…”[7]؛ إذاً مار عبديشوع يعتبر الخمير المقدس (الملك) أحد الأسرار السبعة للكنيسة المشرق ويجعل إستخدامه مهماً لطعام الروحي الذي هو جسد المسيح, ويرجع نقل السر الى كنيسة المشرق لمار توما وبرتلماي من الاثنى عشر وأدي ومار ماري من السبعين.
السر خاص بكنيسة المشرق
يقول عبديشوع الصوباوي: “ان الرسل القديسين مبشري هذه الربوع الشرقية, توما وبرتلماي وأدي وماري من السبعين سلموا لكنائس المشرق كلها الخمير المقدس والمحفوظ فيها لإستعماله سر جسد الرب حتى مجيئه”[8]؛ وعن وجود هذا السر في كنيسة المشرق وعدم وجوده في الكنيسة الغربية, يقول سليمان البصري: “أما بقية التلاميذ، فلم يأخذوا منها، اذ قالوا سوف نقدس لنا كلما أردنا ذلك”. أي ان مبشري الشرق هم فقط من أخذوه ونقلوه الى كنيسة المشرق أما بقية التلاميذ لم يأخذوا منه “لأنهم أقلوا من أهمية ما قدسه الرسل… وقالوا سوف نقدس نحن أيضاً كما قدسوا الرسل, ولسنا بحاجة لما لديهم”[9]. ويقول عبديشوع الصوباوي بخصوص هذا الموضوع: “أنهم سلموا لهم (أي لبقية التلاميذ) كذلك, ولكن مع التغيير الذي طرأ على الإيمان فسدت بقية القوانين بسيطرة الملوك الهراطقة, والشاهد على صحة قولنا هذا هو: لو تمسك جميعهم بتقليد الرسل لما عمل الفرنجية القربان فطيراً والرومان خميراً؛ فالرسل لم يسلموه شكلين؛ أذاً الغربيون هم الذين قبلوا التبديل في الإيمان والقوانين, أما الشرقيون فلا”[10].
أما بخصوص صحة تسلسل هذا السر من الرسل, يقول: “أن الشرقيين قد صانوا الإيمان الصحيح مع القوانين الرسولية كوديعة ثمينة دون أن يطرأ عليها تغيير أو إبدال من يوم بشروا وحتى يومنا, رغم كثرة الأضطهادات التي شنتها عليهم الدولة, ورغم كونهم خاضعين ومستعبدين من دول غريبة لم يغيروا عقيدتهم ولم يبدلوا قوانينهم. ولا يخفي على الأذكياء ما تلاقيه من ضيقات ومخاطر المحافظة على هذه القوانين لا سيما الخمير وبصورة خاصة في بلدان ظالمة وليس للمؤمنين فيها ملك يساعدهم ولا قائد يعينهم ويحميهم, بل كانوا دوماً مضطهدين ومضايقين ومعذبين, ولو لم يكن هذا الخمير من تقليد رسولي لما تحملوا كل هذه العذابات والأعباء للمحافظة عليه مع الأيمان القويم”[11].
أهمية السر
إذاً أهمية السر تكمن في إنه متسلسل من الرب نفسه في العشاء الأخير عن طريق الرسل وهو مهم لتدبيره الخلاصي. فبذلك نحتفظ في كنائسنا نفس القربان الذي قدسه الرب وأعطاه لتلاميذه وتناولوا منه, فبهذا يربط القربان الذي نقدسه اليوم بالقربان الذي قدسه الرب مع تلاميذه وأوصى وقال لهم “هذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي”[12].
هناك لكنيستنا أسرار يمكن أن نسميها مركزية مثل القربان المقدس والعماذ, وأسرار اخرى هي مرتبطة بها مثل الخمير المقدس (الملك) والزيت المقدس, ولا يمكن أن يكون الأول بدون الثاني؛ فالخمير المقدس يستخدم في الطعام الروحي الذي هو جسد المسيح الذي نتاوله في القربان, والجسد ودم المسيح هو مهم لروح الإنسان ليعيش الحياة الأبدية.
تجديد السر وإستخدامه طقسياً
بعدما أمروا الرسل بأن يحفظوا في الكنيسة الخمير المقدس (الملك) الذي أخذوه من جسد الرب في العشاء الأخير ليستخدم في القربان المقدس؛ إهتمت كنيسة المشرق بحفظه وتجديده, وجعلته سراً من أسرارها السبعة. بما أنه قد أخذ من العشاء الرب في خميس الفصح ومتسلسل منه, فقد حددت الكنيسة تجديده سنوياً في تذكار نفس المناسبة أي خميس الفصح؛ بحيث يتم تقديس القربان المقدس في عشية الخميس الفصح والقيامة بالخمير المقدس المجدد (الجديد).
يتم تحديث أو تجديد الخمير المقدس (الملك), بطقس خاص ذكره يوسف قليتا في طقس الكهنة[13]؛ يتضمن رتبة شبيهة برتبة بقية الطقوس من حيث ترتيب الصلوات والتنظيم والتقسم, حيث تتكون من ثلاثة أقسام, البداية والتقديس والخاتمة.
ان عملية التحديث أو التجديد تحتاج الى ثلثين من الطحين الأبيض الخالص والنقي, الملح الناعم, قليل من زيت الزيتون النقي وثلاث قطرات من الماء؛ حيث يتم خلطها جميعاً مع بعضها على صخرة بحضور الأنجيل والصليب وتشعل معهما شموع والبخور, ويرافق عملية الخلط طقس كامل من الصلوات يتلوها الكاهن مع الشمامسة. بعد الأنتهاء يضع الخمير المقدس في الإناء ويعلق في المذبح. وبهذا يظل الخمير المقدس حي وﻻ يتلف طالما يتم تجديده سنوياً ويكون مخلوطاً بكمية كبيرة من الملح.
وفي كل قداس يستخدم الكاهن الخمير المقدس في إعداد خبز القربان حيث يضع منه على العجينة وعلى الزيت فوق “البرشانة الملكية” مرفوقه بتلاوة صلاة طقسية؛ كما يقوم بتلاوة المزامير أثناء جلب الخميرة وإرجاعها الى المذبح؛ ثم يقوم طبخها لتكون الخبز الذي يقدسه في القربان المقدس[14].
——————————————————–
الهوامش:
[1] أسرار الكنيسة السبعة في كنيسة المشرق هي: “الكهنوت, المعمودية, زيت المسحة, الذبيحة (القربان), مغفرة الخطايا, الخمير المقدس (الملك), علامة الصليب المحيي”, وقد إعتمد كنيسة المشرق على تحديد اسرارها السبعة الى قائمة عبديشوع الصوباوي في كتابه “الجوهرة”؛ راجع المقالة 4, الفصل 1.
[2] يوحنا 21: 25.
[3] السمعاني, المكتبة الشرقية, قوانين يوحنا بر ابكر, المجلد الثالث, الجزء الأول, ص 241؛ يوسف قليتا, طقس الكهنة, ق 15, ص ܪܝܓ.
[4]مجلة بين نهرين، السنة الحادية عشرة، العددان (41-42)، العماد لدى عمانوئيل برشهاري، 1983. ص43.
[5] قوانين مار ايليا,عن كتابة الانجيل, ف 14.
[6] مجلة بين نهرين، السنة السادسة عشرة، العددان (61-62)، قصيدة في العماد والخمير القرباني ليوحنا بن زعبي، 1988. ص117؛ : انظر: ابن الطيب, الفقه النصرانية2, الزهارين, قانون 24, صفحة 100.
[7] عبديشوع الصوباوي ، الجوهرة، تعريب لويس ساكو، ص43-45، 50، 54-55.
[8] عبديشوع الصوباوي ، الجوهرة، تعريب لويس ساكو، ص 54.
[9] ايشوعبرنون, أسئلة واجوبة, سؤال 49.
[10] عبديشوع الصوباوي ، الجوهرة، تعريب لويس ساكو، ص 54-55؛ ايشوعبرنون, أسئلة وأجوبة, سؤال21.
[11] نفس المصدر السابق.
[12] انظر: لوقا 22: 7-23؛ مرقس 14: 12-26؛ متى 26: 17-30؛ يوحنا 13: 1-30.
[13] يوسف قليتا, طقس الكهنة, ص ܩܦ- ܩܨܒ.
[14] انظر: يوسف قليتا, طقس الكهنة, ص ܩܣܐ- ܩܣܕ.