طقوس احتفالات رأس السنة الآشورية
ميتولوجيا الخلق، صراع الخير مع الشر وتجدد الحياة
اكتشاف مكتبة الملك آشور بانيبال
في أربعينات القرن التاسع عشر تمّ اكتشاف مكتبة الملك آشور بانيبال(626-667 ق.م)، بواسطة العالم الإنكليزي أوستن هنري لايرد (الملقب بأبي الآشوريات)، ومعاونه العالِم هرمز رسّام (آشوري من الموصل)، وقد احتوَت هذه المكتبة على حوالي 30 الف لوح من الآجر من بينها قصة الطوفان الأولى- ملحمة كلكامش، ملحمة الآلهة عشتار، وفي هذه المكتبة بالذات، وُجدت نصوص ملحمة الخلق ” إينوما إيليش”(عندما في العُلى)، مدوَّنة بالأحرف المسمارية على سبعة ألواح تتطرّق إلى سبعة أجيالٍ حول خلق الكون والبشر والتي تطابقُها في أغلب نصوصها، الأيام السبعة في سفر التكوين- التوراة. واعتبرت محتوَيات هذه المكتبة، المفتاح الرئيسي لعلم الآشوريات، وباتت مرجع تاريخي اساسي لتاريخ المنطقة.
إينوما إيليش (عندما في العلى)
في المدن الآشورية (بابل، نينوى وباقي المدن…)، اعتبرت ملحمة “إينوما إيليش”(عندما في العُلى)، التلاوة الطقسية المُجَسِّدة لخلود سيّد الآلهة، وبداية الحياة والهدف منها، وهي من أقدم الأساطير الملحمية التي تتكلم عن الخلق في التاريخ، وكانت تُتلى في معبد الإله مردوخ (إيساغيلا = البيت الشامخ). وفي اليوم الرابع من “آكيتو” (إحتفالات رأس السنة الآشورية في بابل) التي كانت تدوم طوال إثني عشر يوما بعد ليلة القمر الجديد (بداية الشهر القمري في نيسان).
باختصار، تتحدّث مقدّمة “إينوما إيليش” في اللوح الأول، عن البدء في الجيل الأوّل حينما كانت الأرض معدومة لا إسم لها، حيث كان الكون يتألف من العنصر الذكر؛ إله المياه العذبة “آبسو” والعنصر الأنثى؛ إلهة المياه المالحة “تيامات”، و”ممّو” إله السحاب الذي يرفرف بينهما (لاحظ التطابق مع سفر التكوين في اليوم الأوّل 1: 1-2) ثم في الجيل السادس، الإله مردوخ ( “آشور” عند آشوريي نينوى ) الذي يخلق “لالو” (الإنسان) ليخدم الآلهة فتستريح في الجيل السابع (تماماً كما خلق الرب الإنسان في اليوم السادس، واستراح في اليوم السابع – سفر التكوين2:2-3).
وتتلخّص قصّة الخلق في أنّ الإلهة تيامات التي على شكل التنين “خابور” (السابح في البحار)، كانت تنوي التخلّص من أحفادها المزعجين لتنعم بالراحة مع زوجها آبسو، فأتت بالوحوش المخيفة استعداداً للمعركة، عندها يأتي مردوخ (آشور) ويتعارك معها و ينتهي ذلك بانتصار الإله مردوخ ليشطر المياه تيامات إلى قسمين، فيصنع من القسم الأوّل السماء حيث يخلق النجوم والكواكب، ومن القسم الثاني الأرض حيث يخلق الحيوانات والنباتات، ( كما سيحصل في التوراة، تكوين:1: 6 حيث يفصل الرب بين مياه ومياه ويصنع السماء والأرض) وبعد أن ينتهي مردوخ من خلق كلّ ذلك، سيخلق زوجاً من الإنسان بواسطة الدّم والطين(!).. وسيبني بيتاً له في بابل ليستريح فيه كلّما نزل إلى الأرض في نيسان (تماماً كما سيبني ربّ الجنود فيما بعد، بيتاً له في اسرائيل، صموئيل الثاني: 1:7-17-).
تجدد الحياة
“في يوم الربيع تتمكن عشتار (الهة الانوثة) من تخليص تموز (اله الذكوره) من العالم السفلي، ليعود الى الحياة ويخصب عشتار ويجلب الى الارض الربيع والخضرة”.
في مساء اليوم العاشر من احتفالات “اكيتو” رأس السنة الآشورية، يعود الاله مردوخ الى قلب المدينة للاحتفال بزواجه من الالهة عشتار، وهذا الحب سيولّد الحياة في الربيع (نيسان).
الفكرة المحورية الأساسية لاحتفالات رأس السنة الآشورية الى جانب الخلق هي تجدد الحياة، حيث ان قوى الخير بعد صراعها مع قوى الفوضى والشر وانتصارها عليها، تتجدد الحياة مع بداية الربيع. وبذلك تكون طقوس الاحتفالات برأس السنة الآشورية تبيّن لنا عن رقي في الخيال الميتولوجي والارث الادبي والثقافي وسمو في الفكر الآشوري في ذلك الحين.
العديد من الرموز التي تحتويها طقوس الاحتفال برأس السنة الآشورية، نجدها بشكل او بآخر في الطقوس والمعتقدات المسيحية، مثلاً:
– احادية الاله الخالق الغير مرئي.
– نزول الاله مردوخ الى الأرض وصراعه مع قوى الشر واسره وتحريره وانتصاره في اليوم الثالث، تتقارب مع فكرة تجسد المسيح ونزوله الى الارض ومواجهته الباطل وموته وقيامته في اليوم الثالث.
– بداية الربيع بعد تحرر مردوخ وانتصاره وتجدد الحياة، كما ان الحياة تتجدد بعد قيامة سيدنا يسوع المسيح وبعدها يبدأ الربيع (التقويم الغربي يعتمد ايضا على اول قمر كامل بعد الانتصاف الربيعي).
– وجود فكرة “الثالوث الأقدس” لدى البابليين، المؤلّف من إيّا إله البحار (والد مردوخ) و آنو إله السماء وإنليل إله الجو والأرض.
– صعود مردوخ إلى بيته العلوي (السماء) بعد تحرّره واجتماعه بالآلهة (اليوم الحادي عشر من احتفالات اكيتو) يذكرنا بعيد الصعود عند المسيحيين.
هذا بالاضافة الى العديد من التراتيل التي تتشابه من حيث المعنى العام.